ثلاث لوحات وكسرة خبز [color=purple]... عندما كنت طفلا في الرابعة كانت قد بدأت معاناتي مع مرض خطير ... يختلف عن سائر الأمراض ... كانت رعشة تعتري جسدي النحيل كلما لاحت لناظري صفحة بيضاء ... وكانت يدي اليمنى ترتجف ... وأنا اقف أمام فرشة الألوان ... وملاين من الخطوط المنحنية تتيه في دهاليز مخيلتي الغضة الغراء ... عيناي تذبلان وجبين يشتعل نارا كلما رأيت تلك الرسوم المعلقة في مزلنا الريفي الدافئ ... ساعات طوال اجلس اتأمل تلك اللوحة التي تفتحت عيني عليها منذ شعرت بأنفاسي تتحر من رحم أمي .. وكثير ما سألت أمي .. إذا ما كانت صورة حقيقية .. أو مرسومة .. لكنها كانت تؤكد لي ان الرسام الذي رسمها مات وهو يحلم بكسرة خبز . ومر عامان .. وان أحلم بدفتر الرسم ... وحصلت عليه عندما قالوا لي اني اصبحت في المدرسة ..وان هناك حصة للرسم ... كنت اتخيل معلمة الرسم جميلة ونحيلة كالموناليزا .. ولما جاءت حصة الفن دخلت علينا امرأة سمينة بأنف كأنف الببغاء ...عيناها يختفيان خلف حاجبين اسودين كثين ... جلست خلف الطاولة ... وحررت قدميها المضغوتين من حذائها .. وطلبت منا أن يرسم كل منا ما يحب ....ثم تركتنا وراحت تدفن رأسها بين ذراعيها على الطاولة....
التفت إلى فتاة بقرني ضبي ترسم شمسأ بزاوية الصفحة وزهرة أطول من المنزل ذي الصقف المثلث ... ضحكت من مخيلتها الضيقة ...ورحت افكر بما سأرسم ... ولما فتحت دفتري ولاحت لي الصفحة البيضاء .... اعترتني حمى جنونية .....فرحت إلى اللون الأسود أصبغ به الصفحة البيضاء ... الكون كان واسعا. والنجوم كانت تشبه سرب فراش تجمع حول مصباح ...وعندما سكنت حمتي .. وشعرت بأطرافي تتحرر ..وجدت نفسي أسبح في الفضاء .. ابتسمت وأنا اسير بلوحتي نحو معلمتي .. ايقظتها من سباتها ..وأريتها تحفتي الفنية ..
صرخت بي : ما هذا ؟
قلت لها: رسمت ما احببت .
قالت لي وهي تفرك عينيها الحمراوين :وهل هذا رسم ؟
ضحكت فانا أعرف أنها ليست الموناليزا وقلت: هذا فضاء وهذه نجوم .
قالت لي : أذهب وارسم شيئاً على قدرك ..
قلت: ماذا أرسم ؟
قالت ارسم أي شيء جميل ارسم قفص فيه عصفور .. أرسم كوخ عنده وردة ... لا تستخدم اللون الأسود ... اللون الأسود لون الشيطان .
التفت إلى اللون الأسود .. وقد كانت يدي تقبضان عليه بقوة ... فسألت نفسي .. هل الشيطان لونه اسود .. عدت إلى مقعدي .. وفتحت صفحة جديدة لكنني وجدت نفسي اسبح في هذا الكون المرصع بالنجوم .. رأيتني ألاحق اسراب المذنبات التقطها في قلمي وأرسمها .. وألون الكون بالأسود الفاحم ... وما فرغت حتى توقفت عند الصفعة التي وجهتا إلي معلمتي السمينة ... سقط اللون الأسود من يدي .. ولم أذكر اني حملته بعدها .. حتى اصبحت في سن المراهقة ...كنت اقاوم مرضي واتناول اقراصا مضادة له ..كنت اجتنب حصص الرسم واتغيب دائما عنها واتلقى الإنذارات على ذلك ...انا لم ارسم . فالصفعة كانت قوية ..
دائما ما كانت تعاودني تلك الحمى وتنتابني تلك القشعريرة وتطارد مخيلتي انحناءات وخطوط ومثلثات ونصف دوائر ... ونقاط كثيرة. لكني كنت اشغل نفسي باشياء أخرى .. واهرب منها دون ان التفت خلفي .
وجاءت حصة الشريعة .. وكنت في المقعد الخلفي..وكان لاستاذنا اسلوب ممل .. يجعل الزمن يمر ببطء ويجعل آذاننا عطشى لصوت الجرس..
الجو كان حارا وكنت أتبع على صفحات كتابي ما يقول الأستاذ .. حتى لاحت لي صفحة بيضاء .. فارتجفت اطرافي وشعرت بنمنمة تغزو اصابعي اليمنى .. اغمضت عيني .. فاختلطت صور شتى في مخيلتي .. كان لها عينان اسودان ورموش
[/color]